فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي تسمية يوم القيامة يوم التناد وجوه منها: أن أهل الجنة ينادون أهل النار وبالعكس كما مر في سورة الأعراف. ومنها أنه من قوله: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} [الإسراء: 71] ومنها أن بعض الظالمين ينادي بعضًا بالويل والثبور قائلين يا ويلنا. ومنها أنهم ينادون إلى المحشر. ومنها أنه ينادي المؤمن هاؤم اقرؤا كتابيه والكافر يا ليتني لم أوت كتابيه. ومنها أنه يجاء بالموت على صورة كبش أملح ثم يذبح وينادي في أهل القيامة لا موت فيزداد أهل الجنة فرحًا على فرح، وأهل النار حزنًا على حزن. وقال أبو علي الفارسي: التناد مخفف من التنادّ مشددًا وأصله من ندّ إذا هرب نظيره {يوم يفر المرء من أخيه وأمه} [عبس: 34] الخ. ويؤيده قراءة ابن عباس مشددًا وتفسيره بأنهم يندون كما تند الإبل. وقوله بعد ذلك {يوم تولوّون مدبرين} أنهم إذا سمعوا زفير النار ندّوا هاربين فلا يأتون قطرًا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفًا فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه. وقال قتادة: معنى تولون مدبرين انصرافهم عن موقف الحساب إلى النار. ثم أكد التهديد بقوله: {ما لكم من الله} الآية. ثم ذكر مثالًا لمن لا يهديه الله بعد إضلاله وهو قوله: {ولقد جاءكم يوسف} وفيه أقوال ثلاثة أحدها: أنه يوسف بن يعقوب، وفرعون موسى هو فرعون يوسف، والبينات إشارة إلى ما روي أنه مات لفرعون فرس قيمته ألوف فدعا يوسف فأحياه الله. وأيضًا كسفت الشمس فدعا يوسف فكشفها الله، ومعجزاته في باب تعبير الرؤيا مشهورة، فآمن فرعون ثم عاد إلى الكفر بعدما مات يوسف. والثاني هو يوسف بن ابن إبراهيم بن يوسف ابن يعقوب، أقام فيهم عشرين سنة قاله ابن عباس. والثاني هو يوسف بن ابن إبراهيم بن يوسف إليهم رسولًا من الجن اسمه يوسف وأورده أقضى القضاة أيضًا وفيه بعد. قال المفسرون في قوله: {لن يبعث الله من بعده رسولًا} ليس إشارة إلى أنهم صدّقوا يوسف لقوله: {فما زلتم في شك} وإنما الغرض بيان أن تكذيبهم لموسى مضموم إلى تكذيب يوسف ولهذا ختم الآية بقوله: {كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب} قلت: هذا إنما يصح إذا لم يكن فرعون يوسف قد آمن به لكنه مرويّ كما قلنا اللهم إلا أن يقال: لولا شكه في أمره لما كفر بعد موته قال جار الله: فاعل كبر ضمير عائد إلى من هو مسرف لأنه موحد اللفظ وإن كان مجموع المعنى. وجوّز أن يكون {الذين يجادلون} مبتدأ على تقدير حذف المضاف أي جدال الذين يجادلون كبر. وجوّز آخرون أن يكون التقدير الذين يجادلون كبر جدالهم على حذف الفاعل للقرينة.
وفي قوله: {وعند الذين آمنوا} إشارة إلى أن شهادة المؤمنين عند الله بمكان حتى قرنها إلى شهادة نفسه. والمقصود التعجب والاستعظام لجدالهم وخروجه عن حدّ أشكاله من الكبائر، ووصف القلب بالتكبر والتجبر لأنه مركزهما ومنبعهما، أو باعتبار صاحبه. ومن قرأ بالإضافة فظاهر إلا أنه قيل: فيه قلب والأصل على قلب كل متكبر كما يقال: فلان يصوم كل يوم جمعة أي يوم كل جمعة. ثم أخبر الله سبحانه عن بناء فرعون ليطلع على السماء وقد تقدّم ذكره في سورة القصص. قال أهل اللغة: الصرح مشتق من التصريح الإظهار، وأسباب السموات طرقها كما مر في أوّل ص ف {ليرتقوا في الأسباب} [الآية: 10] فائدة بناء الكلام على الإبدال هي فائدة الإجمال ثم التفصيل والإبهام ثم التوضيح من تشويق السامع وغيره. من قرأ {فأطلّع} بالرفع فعلى العطف أي لعلي أبلغ فأطلع. ومن قرأ بالنصب فعلى تشبيه الترجي بالتمني. والتباب الخسران والهلاك كما مر في قوله: {وما زادوهم غير تتبيب} [هود: 101] استدل كثير من المشبهة بالآية على أن الله في السماء قالوا: إن بديهة فرعون قد شهدت بأنه في ذلك الصوب وأنه سمع من موسى أنه يصف الله بذلك وإلا لما رام بناء الصرح. والجواب أن بديهة فرعون لا حجة فيها، وسماعه ذلك من موسى ممنوع. وقد يطعن بعض اليهود بل كلهم في الآية بأن تواريخ بني إسرائيل تدل على أن هامان لم يكن موجودًا في زمان موسى وفرعون وإنما ولد بعدهما بزمان طويل، ولو كان مثل هذا الشخص موجودًا في عصرهما لنقل لتوفرت الدواعي عن نقله. والجواب أن الطعن بتاريخ اليهود المنقطع الوسط لكثرة زمان الفترة أولى من الطعن في القرآن المعجز المتواتر أولًا ووسطًا وآخرًا.
ثم عاد سبحانه إلى حكاية قول المؤمن وأنه أجمل النصيحة أوّلًا بقوله: {اتبعون أهدكم} ثم استأنف مفصلًا قائلًا {إنما هذه الحياة الدنيا متاع} يتمتع به أيامًا قلائل ثم يترك عند الموت إن لم يزل نعيمها قبل ذلك {وإن الآخرة هي دار القرار} المنزل الذي يستقر فيه. ثم بين أنه كيف تحصل المجازاة في الآخرة وفيه إشارة إلى أن جانب الرحمة أرجح. ومعنى الرزق بغير حساب أنه لا نهاية لذلك الثواب، أو أنه يعطى بعد الجزاء شيئًا زائدًا على سبيل التفضل غير مندرج تحت الحساب. ثم صرح بأنهم يدعونه إلى النار وهو يدعوهم إلى الخلاص عنها وفسر هذه الجملة بقوله: {تدعونني لأكفر بالله} الآية. ليعلم أن الشرك بالله أعظم موجبات النار والتوحيد ضدّه. وفي قوله: {ما لي أدعوكم} من غير أن يقول ما لكم مع أن الإنكار يتوجه في الحقيقة إلى دعائهم لا إلى المجموع ولا إلى دعائه سلوك لطريق الإنصاف.
ووجه تخصيص العزيز الغفار بالمقام أنه غالب على من أشرك به غفور لمن تاب عن كفره. قوله: {لا جرم} لا ردّ لكلامهم، وجرم بمعنى كسب أو وجب أو لابد وقد سبق في هود و النحل. ومعنى {ليس له دعوة} أنه لا يقدر في الدنيا على أن يدعو الناس إلى نفسه لأنه جماد، ولا في الآخرة لأنه إذا أنطقه الله فيها تبرأ من عابديه. ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي ليس له استجابة دعوة كقوله: {والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء} [الرعد: 14] عن قتادة: المسرفين هم المشركون. ومجاهد: السفاكون للدماء بغير حلها. وقيل: الذين غلب شرهم خيرهم. وقيل: الذين جاوزوا في المعصية حدّ الاعتدال كما بالدوام والإصرار وكيفا بالشناعة وخلع العذار {فستذكرون} أي في الدنيا عند حلول العذاب أو في الآخرة عند دخول النار {وأفوّض أمري إلى الله} قاله لأنهم توعدوه. وفيه وفي قوله: {فوقاه الله} دليل واضح على أنه أظهر الإيمان وقت هذه النصائح. قال مقاتل: لما تمم هذه الكلمات قصدوا قتله فهرب منهم إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه. قوله: {وحاق بآل فرعون} معناه أنه رجع وبال مكرهم عليهم فأغرقوا ثم أدخلوا نارًا. ولا يلزم منه أن يكونوا قد هموا بإيصال مثل هذا السوء إليه، ولئن سلّم أن الجزاء يلزم فيه المماثلة لعل فرعون قد همّ بإغراقه أو بإحراقه كما فعل نمرود. قوله: {يعرضون عليها} أي يحرقون بها. يقال: عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به. وقوله: {غدوًّا وعشيًا} إما للدوام كما مر في صفة أهل الجنة {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيًا} [مريم: 62] وإما لأنه اكتفى في القبر بإيصال العذاب إليهم في هذين الوقتين. وفي سائر الأوقات إما أن يبقى أثر ذلك وألمه عليهم، وإما أن يكون فترة وإما أن يعذبوا بنوع آخر من العذاب الله أعلم بحالهم. وفي الآية دلالة ظاهرة على إثبات عذاب القبر لأن تعذيب يوم القيامة يجيء في قوله: {ويوم تقوم الساعة} قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد بعرض النار عرض النصائح عليهم في الدنيا لأن سماع الحق مرّ طعمه؟ قلنا: عدول عن الظاهر من غير دليل. ولما انجز الكلام إلى شرح أحوال أهل النار عقبة بذكر المناظرات التي تجري فيها بين الرؤساء والأتباع والمعنى: اذكر يا محمد وقت تحاجهم وقد مر نظير ذلك مرارًا. وفي قولهم {إن الله قد حكم بين العباد} أي قضى لكل فريق بما يستحقه إشارة إلى الإقناط الكليّ، ولهذا رجعوا عن محاجة المتبوعين إلى الالتماس من خزنة النار أن يدعوا الله بتخفيف العذاب عنهم زمانًا. قال المفسرون: إنما لم يقل لخزنتها لأن جهنم اسم قعر الناس فكأن لخزنتها قربًا من الله وهم أعظم درجة من سائر الخزنة فلذلك خصوهم بالخطاب. أما قول الخزنة لهم {فادعوا} ودعاء الكافر لا يسمع؛ فالمراد به التوبيخ والتنبيه على اليأس كأنهم قالوا: الشفاعة مشروطة بشيئين: كون المشفوع له مؤمنًا والشافع مأذونًا له فيها، والأمر إن هاهنا مفقودان على أن الحجة قد لزمتهم والبينة ألجأتهم. ثم أكدوا ذلك بقولهم {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} أي لا أثر له ألبتة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} يقول الضعفاء للذين استكبروا: أنتم أضللتمونا، ويقول لهم المستكبرون: أنتم وافقتمونا باختياركم؛ فمحاجةُ بعضهم لبعضٍ تزيد في غيظ قلوبهم، فكما يُعَذَّبون بنفوسهم يعذبون بضِيقِ صدورهم وببُغْضِ بعضهم لبعض.
{وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)} وهذه أيضًا من أمارات الأجنبية، فهم يُدْخِلُونَ واسطةً بينهم وبين ربِّهم.
ثم إن الله ينزع الرحمة عن قلوب الملائكة كي لا يستشفعوا لهم. اهـ.

.تفسير الآيات (51- 55):

قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان حاصل ما مضى من هذا القص الذي هو أحلى من الشراب، وأغلى من الجوهر المنظم في أعناق الكواعب الأتراب، لأنه سبحانه نصر الرسل على أممهم حين هموا بأخذهم، فلم يصلوا إليهم ثم أهلكهم الله هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فعذبهم أشد العذاب، وكذلك نصر موسى عليه السلام والمؤمن الذي دافع عنه، وكان نصر اهل الله قاطبة خفيًا، لأنهم يُبتلون ثم يكون لهم العاقبة، فكان أكثر الجامدين وهم أكثر الناس يظن أنه لا نصره لهم، قال الله تعالى لافتًا القول إلى مظهر العظمة، لأن النصرة عنها تكون على سبيل الاستنتاج مما مضى مؤكدًا تنبيهًا للأغبياء على ما يخفى عليهم: {إنا} أي بما لنا من العظمة {لننصر رسلنا} أي على من ناوأهم {والذين آمنوا} أي اتسموا بهذا الوصف وإن كانوا في أدنى رتبة.
ولما كانت الحياة تروق وتحلو بالنصرة وتتكدر بضدها، ذكرها لذلك ولئلا يتوهم لو سقطت أن نصرتهم تكون رتبتها دنية فقال: {في الحياة الدنيا} بالزامهم طريق الهدى الكفيلة بكل فوز وبالحجة والغلبة، وإن غلبوا في بعض الأحيان فإن العاقبة تكون لهم، ولو بأن يقيض سبحانه لأعدائهم من يقتض ولو بعد حين، وأقل ذلك أن لا يتمكن أعداؤهم من كل ما يرون منهم {ويوم يقوم الأشهاد} أي في الدار الآخرة من الملائكة والنبيين وسائر المقربين، جمع شهيد كشريف وأشراف، إشارة إلى أن شهادتهم بليغة في بابها، لما لهم من الحضور التام، وإلى ذلك يشير تذكير الفعل والتعبير بجمع القلة، ولكن الجياد قليل مع أنهم بالنسبة إلى أهل الموقف كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، وإنما عبر بذلك إشارة إلى أهل الحكم بصفات الجبروت للقسط، فيرفع أولياءه بكل اعتبار، ويهين أعداءهم كل إهانة.
ولما وصف اليوم الآخر بما لا يفهمه كثير من الناس، أتبعه ما أوضحه على وجه بين نصره لهم غاية البيان، فقال مبدلًا مما قبله: {يوم لا ينفع الظالمين} الذين كانوا عريقين في وضع الأشياء في غير مواضعها {معذرتهم} أي اعتذارهم وزمانه ومكانه- بما أشار إليه كون المصدر ميميًا ولو جل- بما أشار إليه قراءة التذكير للفعل فعلم بذلك أنهم لا يجدون دفاعًا بغير الاعتذار وأنه غير نافعهم لأنهم لا يعتذرون إلا بالكذب {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23] أو بالقدر {ربنا غلبت علينا شقوتنا} [المؤمون: 106] {ولهم} أي خاصة {اللعنة} أي البعد عن كل خير، مع الإهانة بكل ضير {ولهم} أي خاصة {سوء الدار} وهي النار الحاوية لكل سوء- هذا مع ما يتقدمها من المواقف الصعبة، وإذا كان هذا لهم فما ظنك بما هو عليهم، وقد علم من هذا أن لأعدائهم- وهم الرسل وأتباعهم- الكرامة والرحمة ولهم قبول الاعتذار وحسن الدار، فظهرت بذلك أعلام النصرة، وصح ما أخبر به من تمام القدرة.
ولما كان التقدير: فلقد نصرنا موسى رسولنا مع إبراق فرعون وإرعاده، عطف عليه قوله دالًا على الكرامة والرحمة، مؤكدًا لإزالة ما استقر في النفوس من أن ملوك الدنيا لا يغلبهم الضعفاء: {ولقد آتينا} أي بما لنا من العزة {موسى الهدى} أي في الدين اللازم منه أن يكون له العاقبة وإن تناهت ضخامة من يعانده، لأنه ضال عن الهدى، والضال هالك وإن طال المدى، وذلك بما آتيناه من النبوة والكتاب.
ولما كانت النبوة خاصة والكتاب عامًا قال: {وأورثنا} أي بعظمتنا {بني إسرائيل} بعد ما كانوا فيه من الذل {الكتاب} أي الذي أنزلنا عليه وآتيناه الهدى به- وهو التوراة- إيتاء هو كالإرث لا ينازعهم فيه أحد، ولا أهل له في ذلك الزمان غيرهم، حال كونه {هدى} أي بيانًا عامًا لكل من تبعه {وذكرى} أي عظة عظيمة {لأولي الألباب} أي القلوب الصافية والعقول الوافية الشافية، فذكر إيتاء موسى الثمرة وذكر إيراثهم السبب إشارة إلى أنهم من جنى ثمرته فاهتدي، ومنهم من ضل، وذلك تحذير للاتباع، وتشريف للأنبياء بما نالوه من مراتب الارتفاع.
ولما كان التقدير بعد أن تقدم الوعد المؤكد بنصرة الرسل وأتباعهم: ولقد آتيناك الهدى والكتاب كما آتينا موسى، ولننصرنك مثل ما نصرناه وإن زاد إبراق قومك وإرعادهم، فإنهم لا يعشرون فرعون فيما كان فيه من الجبروت والقهر والعز والسلطان والمكر ولم ينفعه شيء منه، سبب عنه قوله: {فاصبر} أي على أذاهم فإنا نوقع الأشياء في أتم محالها على ما بنينا عليه أحوال هذه الدار من إجراء المسببات على أسبابها، ثم علل ذلك بقوله صارفًا القول عن مظهر العظمة الذي هو مدار النصرة إلى اسم الذات الجامع لجميع الكمالات التي من أعظمها إنفاذ الأمر وصدق الوعد: {إن وعد الله} أي الذي له الكمال كله {حق} أي في إظهار دينك وإعزاز أمرك، فقد رأيت ما اتفق لموسى عليه السلام مع أجبر أهل ذلك الزمان وما كان له من العاقبة، قال القشيري: الصبر في انتظار الموعود من الحق على حسب الإيمان والتصديق، فمن كان تصديقه ويقينه أتم وأقوى كان صبره أكمل وأوفى.
ولما تكفل هذا الكلام من التثبيت بانجاز المرام، وكان من الأمر المحتوم أن لزوم القربات يعلى الدرجات فيوصل إلى قوة التصرفات، أمر بالإعراض عن ارتقاب النصر والاشتغال بتهذيب الأحوال لتحصيل الكلام، موجهًا الخطاب إلى أعلى الخلق ليكون من دونه من باب الأولى فقال: {واستغفر لذنبك} أي وهو كل عمل كامل لأن ذلك غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فتستن بك أمتك، وسماه ذنبًا من باب «حسنات الأبرار سيئات المقربين».
ولما أمره بالاستغفار عند الترقية في درجات الكمال، المطلع على بحور العظمة ومفاوز الجلال، أمره بالتنزيه عن شائبة نقص والإثبات لكل رتبة كمال، لافتًا القول إلى صفة التربية والأحسان لأنه من أعظم مواقعها فقال: {وسبح} أي نزه ربك عن شائبة نقص كلما علمت بالصعود في مدارج الكمال نقص المخلوق في الذات والأعمال ملتبسًا {بحمد ربك} أي إثبات الإحاطة باوصاف الكمال للمحسن إليك المربي لك، ولا تشتغل عنه بشيء فإن الأعمال من أسباب الظفر.
ولما كان المقام لإثبات قيام الساعة، وكان العشي أدل عليها، قدمه فقال: {بالعشي والإبكار} فإن تقلبهما دائمًا دل على كمال مقلبهما وقدرته على إيجاد المعدوم الممحوق كما كان وتسويته، ومن مدلول الآية الحث على صلاتي الصبح والعصر، وهما الوسطى لأنهما تشهدهما ملائكة الليل وملائكة النهار، وقال ابن عباس- رضى الله عنهما: بل على الصلوات الخمس- نقله البغوي.
وذلك لأن العشى من زوال الشمس، والأبكار من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. اهـ.